حلقات من مذكرات ثائر بقلم صلاح صبري المقطوف 
 
 الحلقة الرابعة : الزاوية تزف أول شهيد
وفى صباح يوم الخميس الموافق للرابع والعشرون من فبراير قامت قوة من الكتائب مكونة من عدد( 2 ) سيارة دفع رباعي مركب عليها مدافع 14.5 مم مع سيارة أخرى تحمل مجموعة من الجنود بمهاجمة الميدان وقد دخلت هذه القوات من الناحية الغربية من المدينة ، حيث فتحت القوات المهاجمة النار على المتواجدين بالميدان والذين كان عددهم بسيط على اعتبار التوقيت المبكر للهجوم  وقد لقي هذا الهجوم مقاومة قوية مما أجبر القوات المهاجمة على الانسحاب،وقد أسفر هذا الهجوم على استشهاد مجموعة من خيرة شباب المدينة  بلغ عددهم ثمانية شهداء وهم  :-  الشهيد صالح فحيل البوم والشهيد محمد حلمي بشينه والشهيد سالم البشع والشهيد هيثم عبد الله خضر والشهيد عبد الرزاق مصطفى نصير والشهيد عصام رمضان أبو الطويرات والشهيد الصديق علي العروسي والشهيد عبد السلام خليفة قشوط - أدعوا الله أن يحتسبهم شهداء - وبهذا قام النظام بصب الزيت على النار، فالدماء وقود الثورات و الدم لا يوقف الدم ،والدم لن يثنى المتظاهرون عن عزمهم في الاستمرار بالخروج إلى الشوارع والميادين للمطالبة بحقهم في العيش  بحرية وكرامة.
وقد أسر الثوار بعض جنود الكتائب مع أسلحتهم الخفيفة وغنم الثوار كذلك سيارة صحراوية مركب عليها مدفع 14.5مم، وفى موكب مهيب قام بعض أهالي الشهداء بدفن جاثمين أبنائهم داخل حديقة الميدان ، وسمعت من أحد الأسرى الذين وضعوا داخل إحدى الحجرات الخارجية  لجامع السوق  بأنهم انطلقوا من مدرسة ضباط الصف بصبراتة حيث قِيل لهم أن أفراد من تنظيم القاعدة من جنسيات أجنبية قد احتلوا ميدان الزاوية وأنهم تفاجئوا بأن الموجدين كانوا كلهم ليبيين .
كان الجميع في حالة لا توصف من الغضب والحزن والحسرة على عدم وجود أسلحة يمكن أن تحميهم من مثل هذه الهجمات فقرر الشباب الذهاب إلى المعسكرات القريبة لاقتحامها وعند الساعة الثانية ظهراً تقريباً ، ذهبوا لتنفيذ ذلك فاقتحموا كتيبة القوات الخاصة الواقعة خلف مؤسسة السلع التموينية واستولوا على مجموعة من الأسلحة الخفيفة والمتمثلة في بنادق نوع " كلاشنكوف الآلية " وبعض الأسلحة المتوسطة مثل المدافع المضادة للطيران عيار ( 14.5 /  12.5 ) وكل ما وقع تحت  أيديهم من أسلحة وذخائر تصلح لصد أي هجوم على المدينة وسكانها ، وقد سقط عدد اثنان من الشهداء أمام المعسكر المذكور هما الشهيد " عبد الرحيم مصطفى أبو خذير" و الشهيد " مروان عبد الله كريمة "- أدعوا الله أن يحتسبهم شهداء - وكذلك اقتحم الشباب كتيبة على بن أبى طالب الواقعة في منطقة بئر ترفاس بالزاوية وتحصلوا بالإضافة إلى بعض من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة على عدد ثلاثة دبابات نوع  ت 55  ولكنها غير صالحة لإنتاج النيران حيث نزعت منها كتلة المغلاق الخاصة بوحدة المدفع وتم إحضار الدبابات إلى الميدان ، وكم كان لوقع دخول الشباب إلى الميدان وهم مدججون بالأسلحة المختلفة من أثر بالغ في نفوس المتظاهرين حيث كبر الجميع وتعاهدوا على الدفاع على مدينتهم .     
                                      
ومن العوامل التي ساهمت في إنجاح الثورة هو ما قام به العسكريين من أعمال وأقصد هنا من كلمة العسكريين الضباط وضباط الصف والجنود التابعيين للجيش العادي فيخرج من حسبتهم الكتائب الأمنية كاللواء 32 المعزز وكتيبة سحبان الأمنية وكتيبة الساعدي الأمنية وكتيبة حمزة الأمنية وغيرها من شوه سمعة جيش ليبيا البطل ويخرج من حسبتهم أيضاً المتطوعين الذين أنظموا لسبب أو لآخر للدفاع على النظام الهالك والذين كانوا من المدنيين ولأنهم ارتدوا القيافة العسكرية والعسكرية منهم براء ، أعدهم الكثيرون منا من العسكريين
 كان العسكريون عاملا رئيسيا في إنجاح ثورة التحرير بأن قاموا بترك مواقعهم للثوار فور وصولهم لمعسكراتهم حتى تقع الأسلحة في أيدي الثوار  فهذا ما يفسر عدم وقوع أي حوادث أثناء اقتحام الثوار للمعسكرات وقد لامست ذلك بنفسي عندما ذهب الشباب إلى المعسكر الواقع خلف السلع التموينية  بمدينة الزاوية وبعد أن تكلموا مع الحراسات وطلبوا منهم الانضمام معهم للدفاع عن المدينة  ، وخلال ذلك الهرج والمرج الحاصل أمام بوابة المعسكر فجأة لم يجدوا أحدا في المعسكر فدخل الشباب وأخذوا ما أرادوا علما بأن الشهداء الذين سقطوا أمام المعسكر قد استشهدوا بنيران آتية من خارج المعسكر وأن الذين قاموا بعملية الاقتحام كانوا عزل وكان بمقدور الحراسات صدهم وقتلهم ،وقد كان أخي " الحسن " وأبن خالتي " أسامة الشاوى " من ضمن الشباب الذين قاموا باقتحام المعسكر المذكور وقد تحصلت منهم على كل المعلومات التي ذكرتها  . أنا هنا لست مدافعاً بقدر ما أريد التوضيح لحقيقة قد يجهلها البعض ولكنني أرفض التعميم وفى نفس الوقت لا أنُكر وجود من قاتل مع القذافي من العسكريين شأنهم شأن المدنيين وأرفض التعميم مرة أخرى " .
وبالرغم  من خروج القذافي على الليبيين  مهدداً ومتوعداً بأنه سوف يستخدم كل ما لديه من قوة حتى يستعيد السيطرة على البلد من جديد قائلاً "سوف أزحف أنا  والملايين ومش من الداخل بل من الأمم الأخرى لأطهر البلد ،زنقة زنقة، دار دار شبر شبر " أستمر الاعتصام من قبل الشباب في ميدان الشهداء بالزاوية.
وكان لوقع خطاب القذافي الشهير الأثر الكبير في نفوس الكثيرين وخاصة أنه أشيع في الأيام التي سبقت يوم خطابه إن القذافي قد خرج من البلد مع وعائلته ،فجاء هذا الخطاب ليقطع الشك ويكذب هذه الإشاعة ، وكنتيجة للتهديدات النارية التي أطلقها القذافي مع تيقن الكثيرون من أنه مصاب بجنون القوة وأنه لن يتنازل عن السلطة بهذه البساطة خرج البعض من الميادين العامة التي أعتصم فيها الناس  فور إنتهائهه من خطابه المشئوم فأصبحوا في الصف الأخر ، وأنا هنا لا ألتمس الأعذار لأحد بقدر ما أحاول تحليل موقف مبيناً سبب هذا التغير ، أما في الزاوية فحالها حال المدن الثائرة التي لم ترعى اهتماما لتلك الكلمات التي حاول القذافي أن يرهب بها الليبيون .
كان الحديث الذي يدور داخل الميدان هو أن القذافي سوف يرسل المرتزقة لاحتلال المدينة وأنهم سوف يعيثون فيها فساداً ، وتغير أتجاه الهجوم بحيث اختارت القوات المهاجمة المحور الشرقي للمدينة لمباغتة المعتصمين بالميدان وكانت الهجمات القادمة من جهة الشرق أكثر شراسة ووحشية فاستعملت الدبابات والعربات المدرعة والأسلحة المتوسطة والثقيلة ،بحيث كانت القوات المهاجمة تبدأ بفتح النار منذ الساعات الأولى للنهار وتنتهي قبيل صلاة المغرب من كل يوم تقريباً ،وكانت الأصوات تعلو بالتكبير في إذاعات المساجد ، وهكذا استمرت الهجمات من قبل الكتائب تتوالى على المعتصمين بالميدان ،واستمرت معها المقاومة  وكلما اشتدت الهجمات كلما زادت المقاومة بسالة وبالتالي أرتفع معها عدد الشهداء ،وكانت الكتائب تتخذ نفس الخطة الهجومية في كل مره ، بحيث كانت تستخدم الدبابات وحاملات الجنود والعربات المدرعة لنقل القناصة لتمكنهم من التمركز على أسطح البنايات التي تنتخب لهذا الغرض والتي تشرف بشكل مباشر على المناطق التي ينطلق منها الثوار، كنا نشاهد تلك الهجمات من أماكن تمركزنا حيث كنا لا نمتلك أي سلاح للدفاع به عن مدينتنا  ، وكنا نخرج فور توقف القتال مكبرين  فى كل مره ونذهب مباشرة إلى الميدان لتجتمع الحشود موحدين الله ومكبرين وفى كل مرة نسمع باستشهاد بعض من الشباب ، وفى أحد الهجمات كنت متمركزاً مع بعض الشباب بالقرب من الطريق الساحلي وبالتحديد بالمقابل للمدخل الرئيسي لشارع عقبة بن نافع المؤدي مباشرةً إلى الميدان وكان الوقت حوالي الساعة الثانية ظهراً حينها قررت التقدم لقطع الطريق الساحلي باتجاه الميدان حيث لحقني بعض من الشباب كنت قاصدا شارع عقبة بن نافع ، وعند بداية هذا الشارع التقيت مع أحد الثوار ولقبه "الرميح" فبادرته بالتكبير ورد بالتكبير على الفور وقال لي أنه يوجد قناصة على المبنى الذي يطل على طريقي عقبة والساحلي أي فوق المطعم التركي وكان هذا الثائر يرتدى سترة واقية من الرصاص ويحمل بندقية في يده ، فأخذانا جميعنا ساتراً واحتمينا بحائط قريب من المبنى المذكور ، و ناديت وبصوت عالي مخاطباً القناصة الموجدين في المبنى قائلاً:- ( سلم  تسلم أرمى سلاحك واطلع ما يصير لك  شيئ) ،فتكلم أحد القناصة قائلاً بالحرف الواحد : (أنا أخوكم ليبي ونبي نسلم نفسي )، فتعالت أصوات الحاضرين ما تجمعوا بالتكبير ، ومن خلال باب السلم الخاص بالمبنى المذكور رمى القناصة أسلحتهم ، وبسرعة تقدمت وتقدم معي الآخرون والتقطت أحد هذه البنادق ، وطلبت من الشباب إيصال الأسري إلى مكان آمن ريثما يتم نقلهم إلي أماكن الحجز المعدة لهذا الغرض ،( سمعت فيما بعد أن الشيخ غيث فرحات تكفل بإيصال الجرحى منهم إلى المستشفى فتم ألقاء القبض عليه من قبل الكتائب ) وتقدمت مع مجموعة من الثوار باتجاه شارع عقبة حيث اتخذنا مواقع دفاعية وتعاملنا مع بعض العربات المدرعة التي تحاول إنزال القناصة ومنعناهم من تحقيق ذلك .وها قد انتهى الهجوم وهربت الكتائب باتجاه الشرق وخرج الجميع مكبرين ومثل كل مرة  المزيد من الشهداء والجرحى في صفوف الثوار يقابله المزيد من الإصرار في السير في درب الثورة إلى أن تصل إلى غاياتها النبيلة .