وفى اليوم التالى وهو يوم الأحد الموافق 20 من شهر فبراير 2011م صباحاً ذهبت إلى محل مواد البناء الذى يمتلكه أخى" عادل" والواقع على الطريق الساحلى بالمقابل مع شارع عقبة بن نافع المؤدي مباشرةً إلى الميدان ووجدت المحل مقفلاً ولكن أخى "عادل" جالس أمامه ومعه مجموعة من شباب الشارع وبعد تبادل التحية سألت عن الميدان وماذا يوجد فيه أجاب أحد الشباب أن القذافى ( تمله ) أى بمعنى أنه انتهى . جلست معهم نتبادل الأحاديث عن الزاوية والمناطق الشرقية والمناطق الجبلية ومصراتة وباقى المدن الليبية التى انتفضت فى وجه القذافى والتى تناقلت وسائل الإعلام المختلفة الأخبار عنها .
وخلال ذلك كنت أشاهد أعدادا كبيرة من الناس يخرجون من شارع المنقع وشارع أولاد عمارة ويقطعون الطريق باتجاه الميدان فقررت الذهاب إلى الميدان وفى الطريق رن جرس هاتفى وكان المتصل من العمل وهو العقيد" كمال العربى " من الزاوية و الذي تربطنى به علاقة احترام متبادل وأبلغني أنه قد وصلت برقية إعلان الحالة الكاملة فى العمل (طوارىء) وبما أننى ضابط فى الجيش الليبى وجب علي قطع راحة العمل والحضور إلى المعسكر وأجبته وبسرعة بأننى لن أتمكن خلال اليومين القادمين من تنفيذ ذلك واختلقت عذرا بأنني كنت موجودا فى (جفارة الجميل) !وقلت له ( غطى عليا توا نتلاقوا ونحكيلك ) فقال لى: "المهم أنه عندك علم ويستر الله". قلت له ذلك الكلام لأننى لا أريد الذهاب إلى العمل مع أن عملنا لم يكن له علاقة بالأحداث التي حصلت فيما بعد حيث أننى ضابط برتبة مقدم أتبع للدفاع الجوى آنذاك ومقر عملى بموقع للدفاع الجوي بمنطقة النجيلة وهو عبارة عن موقع لصواريخ روسية الصنع قديمة وغير صالحة ولاتوجد أية جدوى منها , شأنها شأن مواقع الجيش الذي دمره القذافى خوفاً من الانقلاب عليه ، بل أنشأ قوات وكتائب تتبعه مباشرة لتكون الرادع الذى يعول عليه تحسباً لأي طاريء قد يحدث فقام بتسليح الكتائب الأمنية بأحدث أنواع الأسلحة وجهزها بالمعدات الحديثة ودرب أفرادها أحسن تدريب وميزها بالمرتبات العالية وأغدق عليها العطايا من سلف وشقق وغيرها حتى يضمن ولائها له وبالمقابل أهمل الجيش العادى حتى بات كأنه ليس جيشاً محترفاً ولهذا سوف نكتشف فيما بعد أن العسكريين الذين انظموا إلى الثوار والذين انحازوا إلى الشعب وقاتلوا من أجله هم من الجيش العادى فلا تجد فرداً واحد من الكتائب قد انضم للثوار إلا ما نذر .
تابعت طريقى للميدان وعند وصولى وجدت أعداداً كبيرة من المتظاهرين وسط ميدان الشهداء وعلى الفور دخلت وسط تلك الحشود وهى تهتف وتنادى بحرية وكرامة الوطن والمواطن وتطالب بإيقاف نزيف الدم الذي يسيل فى بنغازى وبضرورة رحيل نظام القذافى وغيرها من الشعارات و المبادىء السلمية والنبيلة وقد شعرت وقتها بشعور تقف الكلمات عاجزة عن وصفه ومهما انتقيت من أساليب وأدوات البلاغة فلن أصل إلى وصف ذاك الشعور وهذا الإحساس الذى لم أحسسه فى حياتى قط على الرغم من مروري بلحظات سعيدة بعد هذا العمر . وخلال تواجدى بالميدان لاحظت وجود حركة الشباب داخل الجامع الذى اُتخذ فيما بعد كمقر للجان المختلفة التى تشكلت عفويا لغرض تنظيم الشباب المتظاهرين والمعتصمين بالميدان ، فقررت أن أدخل الجامع للاستطلاع فوجدت الأخ (الطاهر فريشك ) وبيده المايك الخاص بإذاعة الجامع واقفا فوق الحجرة الخارجية للجامع وهو يخاطب الشباب ويحرضهم على البقاء والاعتصام بالميدان مهما كلف الأمر ،حييته بيدي , فرد التحيه وقال لى من خلال المايك :"سجل فى لجنه من اللجان"، والحقيقة لم أفعل ما أراد لأنى لم أرد الزج باسمى فى الأوراق وخاصة إننى ضابط بالجيش و أنه لايوجد أى تحوط أمنى يمنع تغلغل أفراد الأمن إلى المظاهرات ونقل كل الأخبار. وبالفعل تبين صدق إحساسى فيما بعد عندما بدأت حملة الاعتقالات وقد اُعتقل صديقى" الطاهر فريشك " لاحقاً ولقى من صنوف العذاب ما لقى . ها أنا الآن داخل فناء جامع ولى العهد أو جامع السوق أري وجوهاً فرحة مستبشرة رغم المخاطر المتوقع حدوثها فى أية لحظة فهذا صديقى وابن دفعتى" مقدم / على الكور" جالس بفناء المسجد وذاك "خالد الشنوك " زميل دراسة من أيام المرحلة الثانوية واقف يتحدث مع "عبد الحليم العروسى" الذى لم التقه منذ أن تحصلنا على الشهادة الثانوية عام 1983م والتقيت كذلك بأخى وصديقى" حسين الزويك" والمهندس محمود بشينة وغيرهم وكأننا على موعد مسبق .
بقيت الأمور على حالها فى الميدان وقرر الجميع الاستمرار فى المظاهرات مهما كلف الأمر من تضحيات، وكان الناس يشتغلون فى الميدان كخلية النحل ، فتم تركيب شاشة عرض لمشاهدة قناة الجزيرة وغيرها من القنوات المهتمة بالشأن الليبي وعلمنا أن المظاهرات عمت جميع أنحاء ليبيا، وأُعلن فى إذاعات القذافى عن كلمة سوف يوجهها ابنه لليبيين ، وبصراحة انتابنى الخوف مما سوف يطرحه القذافى من خلال ابنه سيف وهذا الخوف ناتج من الاعتقاد من أنه قد يستطيع هذا المخبول إقناع بسطاء الشعب بالخروج من الميادين ، فشاهدت كلمة سيف القذافى وعندما بدأ بتهديد الليبيين اطمئن قلبى لأننى كنت واثقا بأنه لا أحد يستطيع تهديد الجموع فقد تنجح فى كسب ودها ولكنك لن تستطيع ثنيها عن عزمها بالتهديد . وبعد انتهاء خطاب التهديد المشهور, قررت الذهاب إلى الميدان وكانت الساعة حوالى الثانية صباحاً ، التقيت ببعض الأصدقاء أذكر منهم "عمر مانيطة" "ويوسف دوه" ( وهو عقيد بالجيش كان قد اعتقل وعلمت منه فيما بعد أنه وأثناء التحقيق معه عرضت عليه بعض صور ثائري الميدان ومن ضمنها صورة لى مع آخرين فى الميدان ولكنه أنكر معرفته بي) وتحدثت مع بعض المتواجدين بالميدان عن كلام سيف القذافى ولامست منهم الاستمرار والثبات .
وبينما كنا معتصمين بالميدان قام مجموعة من اللجان الثورية بالهجوم على المعتصمين وفتحوا النار علينا مستخدمين بنادق الصيد وكان اتجاه النيران من الناحية الشرقية الشمالية أى من طريق "دار البيجو سابقا " ثم لاذوا بالفرار .
كانت هذه الحادثة ، بالإضافة إلى التهديدات التى أطلقها سيف القذافى ضد الشعب الليبى، ملوحا بأنه سوف يشعل نيران حرب أهلية فى ليبيا تأكل الأخضر واليابس ، فلا تذر ولا تبقي شيئا، مستخدماً فى سبيل تحقيق ذلك كل الإمكانيات التى تمتلكها ليبيا ، وأن نظام القذافى ليس بالنظام الهش كما يتصور البعض، وأنه يمتلك من القوة ما تمكنه من السيطرة على البلد ولن يتردد فى إستخدامها مهما كلف ذلك من خسائر بشرية أو مادية، قد شكلت منعطفاً خطيراً فى خط سير الاعتصامات والمظاهرات ،حيث قرر الشباب ضرورة امتلاكهم السلاح فلا توجد طريقة أخرى غير الهجوم على المعسكرات ومراكز الشرطة الواقعة فى المنطقة ،وفعلاً قام الشباب بالهجوم على مركز شرطة الزاوية، ومعسكر التجييش وتحصلوا على بعض البنادق والذخائر.
واكتمل المشهد العام بحرق وإزالة صور القذافي وإنزال راية الاستبداد ورفع علم الاستقلال بألوانه الثلاثة على سارية ضخمة بالميدان وسط فرحة عارمة لا توصف غمرت الحاضرين واستبشر الاهالى خيراً عندما سمعوا بخبر تحرير مدينتهم.
بقلم : صلاح صبرى المقطوف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق