الحلقة الخامسة :      استشهاد أول قائد ميداني بالزاوية 
استيقظت يوم الجمعة الموافق 4 /  3  / 2011 م  مبكراً وتوجهت إلى الميدان عند حوالى الساعة السابعة صباحاً وذهبت إلى مقر العمليات القتالية التي اتخذت من فندق الجوهرة مقراً لها،وخلال انتظاري للعقيد حسين دربوك تعرفت على" العقيد طيار محمد أبولقمة"، حيث وجدته جالساً بجانب المدخل الرئيسى للفندق ،و تبادلنا حديثاً حول المعلومات التي كانت ترد للغرفة بغزارة واتفقت معه على ضرورة إنشاء مكتب معلومات للتحري عنها ومن ثم معالجتها ، وقد أبدا العقيد "محمد "استعداده لتنظيم عمل هذا المكتب ،وعندما حضر العقيد حسين دربوك أبلغته على الفور بملاحظاتى حول نقاط الضعف في المواقع الدفاعية التي اتخذت حول الميدان والتى يجب أن تتوسع إلى أن تصل إلى مداخل المدينة مع ضرورة قفل الطرق الفرعية الأخرى التى لا توجد بها نقاط دفاعية ،أجابني على الفور بحديث وكلمات مملؤة بالألم بأنه لا ينقصنا الأفراد لتنفيذ ذلك ولكن لا توجد أسلحة وذخائر كافية لوضع خطة دفاعية محكمة وخاصة بعدما قامت الكتائب بالقبض على الشباب الذين قاموا بمحاولة جلب أسلحة وذخيرة من مدينة الزنتان،وفى نهاية حديثي معه طلب مني أن أقوم بتوصيل شخص كان موجودا معه إلى منطقة جنزور باعتباري غير مكشوف من قبل أفراد الأمن الذين قد يتواجدون  بين الناس في  الميدان،خرجت من الميدان ومعي ذلك الشخص والذي أذكر أسمه الأول فقط وهو (صلاح) ومررت على بيتي بشارع المنقع فارتديت قيافتي العسكرية الكاملة حتى أتمكن من العبور من البوابات بسرعة وسلكت الطريق الجنوبي باتجاه جنزور حيث أنزلت ذلك الثائر(علمت فيما بعد أنه أشترك مع مجموعة من الشباب في عمليات ضد النظام بطرابلس)،ومررت على موقع الدفاع الجوي حيث كان الجميع مستبشرين بهذه الثورة ولامست ذلك من خلال أحاديثي معهم حول انتفاضة الزاوية وكان الجميع يتكلم وبدون خوف على كيفية الاستمرار في الثورة حتى يكتب لها النجاح .
قمت بأجراء مكالمة هاتفية مع أخي "عادل "للاطمئنان على الأحوال العامة في الزاوية فأجاب وهو يتكلم بصوت مرتفع وكنت أسمع أصوات أخرى بجانبه وقال لي : (نحن الآن أمام مستشفى الزاوية في مظاهرة كبيرة لم تشهدها المدينة من قبل ..الله اكبر ..العقيد حسين دربوك استشهد .. الله اكبر رصاص جاي علينا من الكوبري ..الله اكبر)ثم انقطع الاتصال،واتصلت على الفور بصديقي "رمضان حليلة" فأكد لي الخبر وأنه موجود في مظاهرة الغضب لمقتل أول قائد ميداني بمدينة الزاوية  فقلت "إنا لله وإنا اليه لراجعون "، وباستشهاد " حسين " فقدت الزاوية أول قائد ميداني والذي كنت أعرفه منذ أيام الدراسة في المرحلة الثانوية وقد كان الشهيد مثلاً في طيب الخلق و حسن المعاملة ، شجاعاً مقداماً ، طالباً للشهادة فظفر بها ، وقد استشهد " حسين" وهو يدافع عن مدينته مقبلاً غير مدبر في كمين نصبته له كتائب الطاغيه بالقرب من منطقة الحرشة .   
قضيت ليلتى تلك بمنطقة النجيلة وفي الصباح توجهت إلى بيتى بالزاوية،وتناولت وحبة الإفطار مع أطفالي الخمسة وكانوا يتسائلون عن مصير الزاوية بعد هذه الأحداث المتسارعة فلمست فيهم الرغبة في حث الثوار على الاستمرار في المقاومة مهما  كلفهم ذلك من ثمن ، وقبل أن أذهب إلى الميدان ذهبت إلى بيت والدي وهو قريب مني واستمعت منه حول ما يجب فعله من قبل أهالي الزاوية بأن يقفوا وقفة رجل واحد نصرة لمدينتهم،وسألت أمي عن أخوتي وعندي من الأخوة سبعة رجال فردت قائلة ((  كلهم فى المظاهرات وما بيتش أنشد أي أحد منهم وندعي في ربي أن يصبرني لو صار لواحد منهم حاجة  )) ، ودعتهم وقد أثرا هذان الموقفان وهم كلام أبنائي وموقف والداي تأثيراً كبيرا في نفسي،توجهت إلى منزل عمي القريب من الطريق الساحلي وركنت السيارة هناك حيث التقيت بأخي "عادل " وأبن عمي "حسين " وترافقنا جميعاً إلى الميدان وعندما وصلنا وجدنا الثوار يقومون بإصلاح بعض  السيارات التي غنموها من اللواء 32 و الذي اندحرت مجموعة من أفراده لتوها بعدما لقوا مقاومة شديدة ، توقفت أمام قبور الشهداء الذين دفنوا في حديقة ميدان الشهداء وقرأت الفاتحة ترحماً على أرواحهم ،وكان عددهم أربع وعشرون شهيداً وقد شد انتباهي مشهد لا أخاله يمحى من الذاكرة ، قبوراً جهزها الثوار لأنفسهم رجالا اشتروا الحرية بأغلى الأثمان .
 واستمرت العمليات القتالية في اليومين التاليين على نفس المنوال وهو قيام الكتائب بهجمات عنيفة وفي المقابل مقاومة شجاعة وتضحيات من طرف الثوار، حيث ازدادت الهجمات كماً ونوعاً إلى أن وصلنا إلى نهاية الأسبوع الأول من شهر مارس7/3/2011 م حيث كنت مع الثوار أمام جامع السوق فإذا بتنبيه يصدر من أحد الثوار عبر إذاعة الميدان قائلاً : (على جميع المقاتلين أخذ أماكنهم والاستعداد لمواجهة مجموعة من السيارات نوع" تندرا" قادمة من إتجاه جودائم)،فرجعنا على وجه السرعة إلى منزل عمي القريب من الميدان حيث السيارة وأخذت بندقيتى منها،وذهبت إلى الطريق الساحلي حيث اتخذت مع مجموعة من ثوار المنقع ساتراً بإتجاه الشارع الرئيسي المؤدي للميدان لاعتراض أي عربة تحاول الدخول إلي الميدان ، وبقينا هناك إلى أن تيقنا من أن السيارات المهاجمة قد دخلت من طريق المستشفى ، فقررنا الدخول إلى شارع عقبة حيث تمركزنا بجانب صيدلية "خالد "، ومن هناك تعاملنا مع بعض السيارات التي كانت تهاجم الميدان ، وتم إسكات نيران أحد القناصة الذى كان متحصناً بمدخل السلم الخاص بأحدى البنايات بشارع عقبة ، وكنا مجموعة من الثوار أذكر منهم (أخي اشرف ،وخالد فحيل البوم ،وشاب من عائلة الرميح وقد أعطاني بعض من الذخيرة،وعبد العاطي البكوش،والعارف الشاوي ومحمد شعرون وأحمد أبوخذير وعبد الرؤوف أبو خذير ومحموعة من عائلة بشينة وعماد الشاوي وقد أُصيب إصابة خفيفة بالرأس وقامت أحدى بنات عائلة بشينه وهى دكتورة بإسعافه أمام منزلها ) وغيرهم ، كنا جميعاً بجانب الصيدلية المذكورة حيث توجد منازل عائلة بشينة والتي تركوها مفتوحة حتى يتسنى لنا الاستفادة منها واستغلالها في صالحنا ، وبينما كنت هناك كلمني المهندس "محمود بشينه" قائلاً :(( يا صلاح أنت عسكري ، وهذا أسير تعال أسئله يمكن تستفيدوا منه))، فدخلت إلى منزل الأخ "محمود" ووجدت عسكري جالساً على كرسي محاط بمجموعة من الثوار فسألته (( كم عددكم وما هو تسليحكم وإلى أي جهه تتبعون ؟))  فأجاب(( نحن حوالى ستون شخصاً  وأسلحتنا كلها عبارة عن بنادق كلاشنكوف وكلنا نتبع اللواء 32 والحرس الثوري )).وبقينا هناك فكانت الهجمات تزداد عنفاً وقاربت ذخائرنا من الانتهاء إلى درجة كنا لا نرمي ألا إذا كنا متأكدين من إصابة الهدف .
وهكذا توالى هجوم قوات القذافى على المدينة ، فقاتل أهلها من شارع إلى شارع ومن بناية إلى بناية ، فكانت الأزمة  أزمة أسلحة ولم تكن أبداً أزمة شجاعة ، وكانت الأزمة أزمة ذخائر ولم تكن أبداً أزمة أعداد ومعنويات ، ولقد رأيت وبأم عيني كيف يهجم الثائر على الدبابة ولا سلاح بيده، ألا قنينة مملوءة بالبنزين محاولاً إحراق تلك الدبابة ومن فيها .
كان القذافي يبحث عن أي نصر ينتزعه وبأي ثمن عقب الهزائم التي توالت على قواته في المناطق الشرقية والمناطق الجبلية من البلاد،ومما زاد من ضغط قوات القذافي على المدينة وجود مصفاة نفط بها وهي المصفاة الوحيدة التي تقع في غرب البلاد ولا خيار له ألا السيطرة عليها فهي مصدره الوحيد للوقود وخاصة بعدما بات احتمال فرض حصار بحري من قبل القوات الأجنبية يلوح في الأفق.