السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
لقد دار حوار بيني وبين أخي عمر الشاوش .... حواراً كتابياً في الموضوع الذي بعنوان (لعبة الأمثلة المتصلة)، وكان اخي عمر قال مثلاً متصلاً، فأجبته عن هذا المثل، وكتبت له بأنَّ قائل هذا المثل هو جدي السابع أو الثامن (حبيب بن عبد المولى العبيدي) وهو صاحب التجريدة، فطلب مني أخي الفاضل أن أكتب عن هذه التجريدة؛ والتي كان لايعلم عنها شيئاً،
فقررت أن أُعدّ القصة، وأطبعها، وأذكرها لكم بشيء من التفصيل الممل، وذلك لأمرين اثنين:
- تلبيةً لطلب أخي عمر الشاوش
- ولكي نعلم قصة كانت ولا زالت من أبرز القصص التي يحفل بها تراثنا الشعبي؛ مع أنّ هذه القصة كانت أشبه بقصص العصر الجاهلي، فكانت قصة مُرَوِّعة أسفرت عن قتال وفتن بين أبناء العم، وهي شبيهة بقصة (حرب البسوس) التي جرت ما بين أبناء العمومة (بكر وتغلب).
عليه أرجو أن لا أكون مملاً في سردي للقصة، وأرجو أن لا يُنظَرَ إليَّ بنظرة اتهام أو أنَّي قبليُّ متعصب.
فلا وألف لا للتعصب القبلي المقيت؛ الذي لم نَجْنِ منه إلا الفرقة والفتنة والضعف والهوان؛ وأعداء الإسلام من اليهود والنصارى كانوا وما زالوا يتربصون بنا الدوائر، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله والله المستعان، فكما قال الله عز وجلَّ: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)، وكما قال قدوتنا ورسولنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن التعصب القبلي: "دعوها فإنها نتنة".
التجريدة معناها بلهجة أهل الشرق تعني الحملة أو المَدَد. وقصة تجريدة حبيب تواترت أخبارها وتناقلت أحداثها على ألسنة الرواة كابراً عن كابر وخلفاً عن سلف، حتى صارت إلى يومنا هذا عند الأطراف المتنازعة-وسيأتي ذكرهم- أشبه ما يكون بالميراث.
يعتبر الحرابي والمتكونين من (العبيدات والدرسة والحاسة وأولاد حمد) و أولاد علي إخوة وأبناء لعقار، والذي يقال عنه أنه هو ابن للذيب أبي الليل وسعدى الزناتية (بنت الزناتي خليفة)، والذيب أبو الليل هذا هو من قبيلة بني سليم التي كانت قد هاجرت مع بني هلال بن صعصعة من جزيرة العرب إلى إقليمي برقة وطرابلس في زمن الدولة الفاطمية، وتُعرَف قبائل (الحرابي وأولاد علي والجوازي والعواقير والمغاربة والعريبات والعبيد والعرفا والمجابرة) بالسعادي؛ نسبة إلى جدَّتهم سعدى.
قصة تجريدة حبيب هي ولا شك قصة حقيقية واقعية، ولكن كما هو معلوم اعترتها المبالغة من قِبَلِ القصاصين، شأنها كشأن قصة (حرب البسوس)، ويرجِّح الباحثون والمؤرخون أنها وقعت في بداية القرن الثامن عشر الميلادي، أي في أواخر العهد العثماني الأول.
وكانت (قبيلة أولاد علي) قبيلة كبيرة وقوية، حيث أنها بسطت نفوذها على جزء كبير من برقة الشرقية الممتدة من منطقة رأس التراب غرباً (منطقة تقع غرب شحات ) وحتى مناطق هضبة البطنان (طبرق) شرقاً. وكانت بداية الصراع بين القبيلتين على الأراضي الخصبة والمياه التي كانت ولا زالت تتمتع بها مدينة درنة، وعلى الزعامة في منطقة الجبل الأخضر.
كانت قبيلة الحرابي قد جعلت الشيخ (عبد المولى الأبح بن الواعر بن عبيد) زعيماً لها، حيث قام هذا الرجل بتوحيد صفوف الحرابي وشن معارك طاحنة ضد قبيلة أولاد علي، أسفرت هذه المعارك على انتصار الحرابي على (أولاد علي) وإجلائهم حتى مناطق البطنان شرقاً.
ويذكر المؤرخون أن في أحدى المعارك التي انتصر فيها الحرابي؛ أخذ عبد المولى طفلاً من قبيلة أولاد علي كان قد مات أبواه، وقام بتربيته مع سائر ابنائه، واسمه (النعاس) وكان يلقب ب(النعيعيس)، وجعله كواحد من ابنائه.
نشأ النعيعيس هذا وشبَّ في بيت (عبد المولى الأبح)؛ والذي كان يحبه كثيراً كحبه لأبنائه، لكنَّ النعيعيس كان يضمر شيئاً في نفسه، ولم ينس ما حلَّ بقومه (أولاد علي) من قتل وتشريد، فأضمر في نفسه الانتقام من (عبد المولى) وأبنائه. وانتهز هذه الفرصة عندما ذهب للرعي مع أحد ابناء (الشيخ عبد المولى) فقتله و وارى جثته في التراب وأخذ منه لباسه الذي كان ملطخاً بالدماء و واراه داخل برذعة الحمار ورجع وأنكر بعدم رؤية الغلام، إلا أنه اكتُشِفَ الأمرُ بوجود دماء داخل البرذعة، وعرف عبد المولى أن النعيعيس هو قاتل ابنه، ولكنَّه لم يقتص منه وعفا عنه لأنه كان قد عاش في حمايته، وطلب من النعيعيس الرحيل بعيداً عنه حتى لا يتعرض للقتل.
غادر النعيعيس بيت (عبد المولى) ونفسه لا تزال تكتم غيظاً على عبد المولى وعشيرته، ثم دخل النعيعيس الحربية العثمانية حتى صار من كبار الضباط في الحربية، وصار من أبرز القياديين في درنة؛ الأمر الذي جعله يأتي بأبناء عمومته كلهم من هضبة البطنان إلى درنة وبسط نفوذهم في المنطقة، وقام بإدخالهم معه في الحربية العثمانية، وقلَّدهم مناصب مرموقة في درنة، وبدأ يصبُّ العذاب هو وعشيرته على قبيلة الحرابي وحلفائهم؛ وخصوصاً (العبيدات)، وذلك لأنهم كانوا عشيرة عبد المولى وكانوا أكثر من يملك ويبسط نفوذه في تلك المنطقة. تم تدبير مكيدة لعبد المولى من قِبَلِ النعيعيس عند والي درنة التركي- والذي كان يقال بأنه موالي لمماليك مصر-، فما كان من الوالي إلا أن أمر بسجنه مكبلاً بالحديد بجوار سور من أسوار مدينة درنة، وتقول الرواية أن ولدين من أبناء عبد المولى تمكّنا من انقاذه وذلك بحفر نفق سري تحت السور، فأخذ الولدان أبيهما وهو مكبل بالحديد و وضعاه على حصان وهما على حصانين آخرين ولاذوا بالفرار. غير أنهم سرعان ما انكُشِفَ أمرُهُم، وخرج القوم وفي مقدمتهم النعيعيس ليتقفوا آثار عبد المولى وابنيه، وبالنسبة لعبد المولى فإنه كان قد ضايقته الأغلال كثيراً؛ وذلك لكبر حجمها، فطلب من ابنيه أن يخبئوه في أحد المغارات ويذهبا حتى لا يتم الإمساك بهم جميعاً، فلبى الأبنان طلب أبيهما وخبئاه في أحد المغارات، ولكن النعيعيس كان ذكياً فعرف أنهما قد تخلصا من الحِمل الذي كان معهما وذلك لسرعة الفارسين في المسير. فأمر جنوده بالبحث عن هذا الحمل وترك الفارسين، فوجد الجنود عبد المولى وسلَّموه إلى النعيعيس الذي قام بتسليمه إلى والي درنة والذي أمر بقتله في الحال، فقتله النعيعيس وأمر جنوده بقطع رأسه وتعليقه أمام القصر عدة أيام حتى يكون عبرة لغيره، ثم أُخِذَ رأس عبد المولى ودُفِنَ مع الجثة بجانب سور درنة الغربي في أعلى الجبل، والذي قال فيه أحد أحفاده الشاعر سالم البنكة العبيدي عند رجوعه من معتقل العقيلة:
سلامات يا درنة حلال مزارك***راس جَدَّنا مبني عليه اجدارك
وقد كان لمقتل الشيخ (عبد المولى) أثره البالغ في نفوس (الحرابي) وجميع محبيه من القبائل الأخرى، إذ أن بموته فقدوا أعظم شيوخهم وقادتهم.
وكان من بين أبناء عبد المولى ابن اسمه (حبيب) نشأ لصاً وقاطعاً للطريق، يقوم بالسطو على المواشي ويعترض طريق المارَّة، وفي اليوم الذي قُتِلَ فيه أبوه كان مختفياً جوار غنم ترعى بغابة بين القبَّة ودرنة تُدْعى الزردة، وكان يتحين الفرصة كي يسرق منها، فتفطن له الراعي فسأله حبيب: ما أخبار درنة؟ فأجاب الراعي: قُتِلَ الشيخ عبد المولى وقُطِع رأسه وعُلِّق أمام القصر، فبكى حبيب على أبيه، وترك الراعي وغنمه، وعرف أنه مخطئ في كل ما كان يفعل فارعوى عن غيّه وطوى صحائف ما سبق من أعماله المشينة، وذهب إلى درنة ليرى ماذا سيفعل؟
ويُذكرُ أنَّ قبيلة أولاد علي أرسلت مجموعة من فرسانها لقتل حبيب بن عبد المولى، فلمَّا رآهم حبيب ادَّعى أنَّه مجنون، وقرر الفرسان تركه لأن لا يتحدث الناس ويقولون بأن أولاد علي تقتل المجانين. وبسطت قبيلة (أولاد علي) نفوذها على أغلب مناطق الجبل الأخضر، وصارت أشد بأساً من ذي قبل وأقوى من الحرابي وجميع من في المنطقة.
فَكَّرَ حبيب أن يذهب إلى صديق والده الشيخ (القِرِّي) وهو من قبيلة العوامة، وأن يستشيره بِمَ يفعل؛ وذلك لاتصافه بالحكمة وحُسن الرأي، فقابله القري بعبوس وظن أن حبيب قد جَبُنَ أو جُنَّ، وذلك كما يدَّعي كثير من الناس، وقال له: أنت هبل (أبله)، فقال حبيب:
أول اهبال من صادر الريح وبال، وثاني اهبال من خش السوق بلا مال، وثالث اهبال من خش المعركة بلا ارجال.
فأيقن الشيخ القري بأن حبيباً ليس بجبان ولا بمجنون، وأنه عاقل ويعي ما يقول. فقال له: لا بد من الثأر يا حبيب. فقال حبيب: وما العمل؟ قال القري: اذهب إلى والي طرابلس واشتكي له من هؤلاء القوم (أولاد علي) وبطشهم، واطلب المعونة منه، وأعطاه كمية من الذهب لينتفع وليتزود بها في طريقه. فاشترى حبيب فرساً وعزم على السفر وأوصى أخيه (غيثاً) بتدبر شؤون العائلة حتى يرجع من سفره أو يموت دون ذلك.
اتجه حبيب إلى طرابلس ومرَّ على بنغازي وكان اسمها ( مرسى الملح)، وكانت فرس حبيب قد عجزت عن إكمال السير وذلك لعدم انتعالها و وعورة المسير، فجاء حبيب أمام ورشة الحداد وقال له بأن الفرس تحتاج إلى نعل، فسأله الحداد ساخرا منهً ومتهكماً: تريد نعلاً كاملاً أو نصف نعل، فردَّ عليه حبيب:
بالصدر ما نقرضوك**وبالقفل نمشوا رضايا
وأنت كيف امعطن العد**اللي ايجوك يمشوا روايا
(معنى الصدر: النعلان الأماميان)، و (معنى القفل: النعال الأربعة)
ثمَّ استأنف حبيب سفره حتى وصل إلى طرابلس؛ و وصل أمام قصر الوالي فحاول مقابلة الوالي مراراً لكنه لم يستطع ذلك، فلجأ حبيب إلى الحيلة، وذلك أن الوالي كان له ابن صغير يخرج يومياً خارج القصر، وكان يمر من أمام حبيب، فقرر حبيب أن يعطيه بعض من الذهب الذي كان قد أعطاه له (القِرِّي) كهدية، فأخذ الفتى الذهب ودخل القصر وأخبر أمَّه بأمر ذلك الرجل الغريب الذي كان أمام القصر، فنظرت الأم وابنها من أحد شُرُفات القصر فرأت حبيبا ينتظر خارج القصر ورأته أيضاً وهو يلبس أفخر الثياب، فعلمت الأم أنه ليس بمتسول، وأنَّ له حاجة كبيرة لابد من معرفتها، فأخبرت الأم زوجها الوالي بالخبر، فقام الوالي باستدعاء حبيب وسأله عن حاجته، فقال حبيب:
نا بوي يا بي محمود**مقتول ظلم ماله اجناية
المير في الوطن محسود**ذلوه ناسا رعايا
ثم أخبر حبيب الوالي بكل ما يلقوه (من أولاد علي)، فسأله الوالي عن حاجته تحديداً، فقال حبيب: أريد تجريدة مكونة من الأسلحة والعتاد والفرسان، فلبّى الوالي طلبه وأرسل معه جيشاً قوامه ألف مقاتل منهم الفرسهم المشاة؛ كان أغلبهم من قبائل المنطقة الغربية .
ذهب جيش التجريدة مع حبيب واتجه إلى درنة، فلما قَرُبَ الجيش من مناطق الجبل الأخضر أمرهم حبيب بالتوقف والمكوث في مكان حدده لهم، وذهب مسرعاً إلى أحياء (نجوع) أولاد علي للبحث عن القري، وإخباره بالخبر، وإخراجه هو وأهله من المكان الذي ستحدث فيه الحرب، وحتى لا يحصل لهم ما يكره، حيث أن القِرِّي كان يقطن في حي قريب من أحياء قبيلة أولاد علي.
كان فرسان أولاد علي يصولون ويجولون في تلك المنطقة تأهُّباً لأي خطر، فقام حبيب بالتنكر بزي مغربي حتى لا يشك الفرسان به، ودخل الحي الذي يقطنه (القِرِّي)، و وجده وقال له: إني أود أن ألعب معك السيجة (لعبة شعبية)، فلعب حبيب مع القرِّي السيجة وكان فرسان أولاد علي ينظرون إليهما، وكان القرِّي قد عرف حبيباً؛ إلا أنه ادعى بأنه لا يعرفه، فقال حبيب للقرِّي:
ظنَّك إن جت جور مية**غير بالمتع والشرابي
وهي سلافاتها عشر مية**من غير طارشات النقابي
إن جت للشبيكة عشية**ظنك اتضاوي الغرابي
(جور مية: تجريدة بالتركي، عشر مية: أي عشر مئات، أي ألف فارس، الشبيكة: منطقة قرب أحياء أولاد علي، الغرابي: المنطقة التي يوجد فيها أحياء أولاد علي).
فرد القري على حبيب قائلاً:
ريت الثلم وين ما هدم**هو مقحزه هو امباته
وجا للمخيلي ورسم**وجن يلعبن رايداته
في الليل وقت ما الفجر علَّم**في نوم العدو هاجماته
كان هذا النقاش بالألغاز بين حبيب والقري حتى لا يفهمه فرسان أولاد علي الذين كانوا يراقبونهما عن قرب، وكان رد القرِّي على حبيب بأن لا يسلكوا طريق (الشبيكة) الوعرة وأن يسلكوا طريق منطقة (الثلم) وأن يبيتوا فيها، ثم يسلكوا طريق منطقة المخيلي المُسَطَّحة، وأن يُغيروا على أحياء (أولاد علي) وقت الفجر.
فاستصوب حبيب هذا الرأي السديد وقال للقري:
يا شيخ ما كنت ذهَّاب**ولا فيك شي من اللياشة
خذها علي زينة الداب**وخلي النسا عالدباشة
را ايقابلك دير واركاب**وحلابة في هشاشة
خلي حشوها فيه ذهاب**بعيد من كشيش الحناشة
أخبره حبيب في هذا اللغز الشعري بأن يأخذ فرسه وإبله- وهما المقصودان ب(زينة الداب)- وأن يأخذ نسائه وأبنائه مع أمتعتهم قبل قدوم الجيش بفرسانه ومشاته، حتى لا يتأذوا من القتال الذي سيحصل.
ذهب حبيب وأخبر أبناء عمومته من الحرابي بقدوم الجيش، وجهَّزهم للذهاب إلى جيش التجريدة؛ حتى يكونوا جنباً إلى جنب ضد أولاد علي، فنضَّم حبيب ومن معه الجيش، وبينما هو ينظم الجيش قال له قادة قبائل (المنطقة الغربية) بأن الأمر جلل؛ وفيه حياة أو موت، فماذا تعطينا إن انتصرنا أو خسرنا؟، فقال لهم حبيب:
اللي ايعيش معانا انهنُّوه**وايبات في احدود الغوايا
واللي ايموت مال انفادوه**والله غفَّار الخطايا
ومعنى كلامه أن الذي يبقى على قيد الحياة فإنه سيعيش معنا في درنة ونقاسمه مما نملك، وإنَّ الذي يُقْتَل في هذه المعركة فإنَّا سوف ندفع دِيَّته والله غفور رحيم.
واتجهوا نحو الثلم، ثم المخيلي، ثم الغرابي (مكان أحياء أولاد علي)، فأغار الجيش على أولاد علي وحصلت مقتلة عظيمة بين الطرفين أسفرت عن انتصار جيش التجريدة والحرابي، وارتبك أولاد علي واختُل توازنهم وتفرَّق شملهم و ولوا الأدبار وهربوا إلى مناطق تقع في أقصى شرق برقة-وهو ما تُعرف الآن بمناطق السلوم وسيدي براني ومطروح التابعة لمصر، واستقرَّ أغلبهم فيها حتى هذا الوقت، وتذكر بعض الروايات بأنَّ عددهم الآن يبلغ المليونين أو يزيدون.
ذهب حبيب مع عشيرته المقربين من إخوته وأبناء عمومته ليبحثوا عن (النعيعيس) ويدركوا ثأرهم منه، وبينما هم في الطريق إذ بامرأة طاعنة في السن سقطت بهودجها (كرمودها) من على الجمل وهي من قبيلة أولاد علي، فاستغاثت المرأة بحبيب وطلبت منه المساعدة، فساعدها وركَّبها في الهودج، وأراد الانصراف، فإذ بالمرأة تناديه وتسأله: "من أنت؟، فإنَّي أود مكافأتك"-ولعلها كانت تظنه من قومها، فقال لها حبيب:
نا اللي انجيب التجاريد**ونا اللي اندل الصفافي
ونا اللي انخلي الكراميد**فوق من العجايز مكافي
فقالت له: أنت حبيب؟. قال: نعم. فأهدته ركاباً من ذهب، وقالت له: أنت أولى به منَّا.
ثم سار حبيب وعشيرته المقربين للبحث عن النعيعيس، حيث أن حبيب قال لهم: من يقتل النعيعيس له برنس (برنوس) وخاتم زعامة العبيدات- وهم ابناء عبد المولى وإخوته وأبناء إخوته وأبناء عمومته. فذهب القوم كلٌ يبحث عن النعيعيس، فأدركه (غيث)- وهو أخٌ لحبيب-فقتله وقطع رأسه وجاء به إلى حبيب، ففرح حبيب ومن معه بمقتل النعيعيس، وأهدى حبيب البرنس والخاتم إلى غيث وقال له: أنت من الآن هو زعيمنا، فصارت الزعامة في قبيلة العبيدات لأبناء غيث حتى وقتنا الحاضر، ولا زالوا يحتفظون بالبرنس والخاتم حتى وقتنا الحاضر، وذلك لاعتزازهم بما صنع جدهم.
رجع حبيب إلى درنة وأعطى قبائل (المنطقة الغربية ) ما كان وعدهم به، والذين لا يزالون حتى وقتنا الحاضر يشاطرون قبيلة العبيدات في درنة، وتم إنشاء حضارة جديدة في درنة مغايرة لأي مدينة في المنطقة الشرقية مُزِجَت بين قبائل الشرق والغرب وقبائل عربية أخرى قادمة من الأندلس. والذي يأتي إلى درنة يلاحظ هذا المزيج المُبْهِر والرائع بين هذه القبائل.
وللعلم؛ فإني أقول بأن قبيلة (أولاد علي) كان لها دور كبير وفعَّال في مقاومة الاحتلال الإيطالي لليبيا، وكانت أيضاً من القبائل السبَّاقة لمساعدة المجاهدين الليبين في قتالهم ضد العدو الإيطالي، وكانت أيضاً تَمُدُّ المجاهدين باللباس والطعام والسلاح والعتاد، حتى أن العدو الإيطالي زمن الاحتلال تضايق منهم كثيراً ومن إمداداتهم التي لم تنقطع؛ فقرر وضع سياج عازل بينهم وبين المجاهدين يمتد إلى مئات الكيلومترات ليصرفهم عن المجاهدين.
ومما لا شك فيه أن المعارك القبلية التي جرت في إقليم برقة زمن العهد العثماني الأول والعهد القرمانلي خلَّفت دماراً وقطيعة رحم بين القبائل المتناحرة، ولكن قدَّر الله وما شاء فعل وما دفع كان أعظم، وهذه هي حكمة الله سبحانه وتعالى، وكما قال الله سبحانه وتعالى:
(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض).
وقال الله تعالى أيضاً:
(تلك أُمَّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يعملون)
بقلم \ احمد الشبلي